شاؤول سيتر
مع صدور هذا العدد من مجلّة نظريّة نقد، لا تزال الحرب في غزة مستمرة. ففي 18 آذار 2025، نسفت إسرائيل هدنةً دامت قرابة الشهرين بهجوم دموي أسفر، خلال نصف ساعة فقط، عن مقتل أكثر من أربعمئة شخص. ومنذ ذلك الحين، لم تتوقّف الغارات الجويّة الإسرائيليّة، التي تودي بحياة العشرات يوميًا. تمنع إسرائيل دخول الغذاء والمساعدات الإنسانيّة إلى القطاع، والجوع هناك يتفاقم. عشرات الآلاف من النازحين يبحثون، من جديد، عن مكان آمن، بلا جدوى. قنبلة سقطت على منطقة “المواصي” – التي كانت حتى وقت قريب تُعتبر “منطقة إنسانيّة” – فأشعلت الخيام وأودت بحياة 37 شخصًا. كما قُتل خمسة عشر عامل إغاثة في رفح. أمّا خطّة ترامب لإفراغ غزّة من سكّانها فلم تُنفّذ، لكنّ الجيش الإسرائيليّ يفرض “مناطق عازلة” آخذة بالاتساع وخالية من الفلسطينيّين. آليّة التهجير والإبادة تعمل بأقصى طاقتها، بدعم مباشر من دول الغرب، التي يساهم الكثير منها في تسليح إسرائيل. أمّا في الداخل الإسرائيليّ، فلا يظهر أيّ فاعل سياسيّ مؤثّر يطالب بإيقاف آلة الحرب. حتى أولئك الذين ينادون بصفقة تبادل أسرى مقابل وقف الحرب، لا يسعون في الواقع إلّا إلى تعليقها مؤقّتًا، لتُستأنف لاحقًا. فهذه “الصفقات” لا تُنهي الحرب، بل تُعيد تنظيمها. وقف إطلاق النار الأخير مكّن من تصعيد العدوان، جوًّا وبرًّا، على السكّان الفلسطينيّين في الضفة الغربيّة. كان انهيار وقف إطلاق النار مُخطَّطًا له سلفًا، والعودة للمعارك كانت متوقعة من البداية.
نحن أسرى الحرب، واقعون في شَرَكها، متشابكون في مخالبها. الحرب التي تُصنَّف في إسرائيل – من حيث سببها الظاهريّ وغايتها المعلَنة – على أنّها من أجل “الأسرى الإسرائيليّين في غزّة”. وعلى خُطى مقالة نيتسان روتِم في هذا العدد، نُصرّ هنا على تسميتهم “أسرى” وليس “مخطوفين”. فالخطف هو عمل مفاجئ، خاطف، يستمدّ صوره من الأساطير القديمة أو من عوالم الجريمة؛ فعل يقوم به أفراد. أمّا الأسر فهو فعل ذو طابع جماعيّ، يتمّ ضمن بنية اجتماعيّة واسعة، بين جماعات هي التي تتحمّل المسؤولية تجاهه. الخطف هو فعل بلا سياق، ينجم عن نزوة شرّيرة أو دافع يتجاوز الحدود، وهو فعل منقطع عن الماضي وحاجز للمستقبل. أمّا الأسر، في المقابل، فهو مشبع بالمعنى، متجذّر في التاريخ: له أسباب وتفسيرات، يقع ضمن سياق سياسيّ، ويُعدّ لحظة ضمن حركة، أو مرحلة في مسار. لذلك، يُصرّ الخطاب الإسرائيليّ على وصف الأسرى بأنّهم “مخطوفون”: لأنّ الخطف لحظة خاطفة يمكن التراجع عنها، تمامًا كما يُراد لاستعادتهم أن تكون فوريّة – “جميعهم، الآن!” – وكأنّ الأمر خطأ رهيب يجب إصلاحه دفعة واحدة، أو خلل مروّع يجب التغلّب عليه. أمّا الأَسْر، فيرتبط بالواقع الذي حدث فيه، ويستمرّ فيه، وهو ليس استثناءً يمكن محوه، بل فعل له منطق وبُنى ويجب إنهاؤه.
الحرب والأَسْر مترابطان. فالأَسْر هو أحد ملامح الحرب، والحرب تأسر من يشاركون فيها. إسرائيل أسيرة للحرب، من قبل تشرين الأول 2023 بكثير، كما يكتب رشيد الخالدي في كتابه حرب المئة عام على فلسطين” (2020)، فإنّ ما نشهده في السنة ونصف السنة الأخيرة هو تجلٍّ متطرّف لأفعال مجتمع وقع في أسر الحرب ويعيش فيها، عن معرفة أو عن جهل، مخيّر أو مسيّر، منذ عقود طويلة: ترسيخ الاحتلال، وتعميق نظام الفصل والقمع، وتفتيت الشعب الفلسطينيّ واستنزاف موارده، وتعزيز التعاون بين المستوطنين والجيش، وتشريع قوانين القوميّة – هذه كلّها نتيجة عقود من الحرب المريحة لإسرائيل، “بكثافة منخفضة” وبعدد قليل من المتضرّرين، وضمان ازدهار اقتصاديّ واستقرار اجتماعيّ نسبيّ. وفق ذلك، حرب غزّة الحالية ليست تحوّلًا تراجيديًا في حبكة الحياة هنا، يتحمّل مسؤوليته تنظيم قاتل وقائد فاسد. في الوقت الذي تخلط الحرب فيه الأوراق تحقّق أيضًا خططًا رُسمت مسبقًا وأحلامًا دفينة جُهِر بها علنًا. هذه الحرب ليست طريقًا مسدودًا فقط، ولا طريقًا من دون مخرج، أو خطأً تاريخيًا سيُحاسبون عليها لاحقًا. إنّها تمكّن اقتصاد حرب هناك مستفيدين منه، كما أنّها تقترح مخرجًا لعدد غير قليل من الأشخاص المنغمسين فيها، المستجيبين لندائها ويشاركون فيها متلهفين. لا يدور الحديث هنا فقط عن اليمين الاستيطانيّ الذي يرى في أكتوبر ٢٠٢٣ زمن بداية خلاصنا، بل في الأشخاص غير الأيديولوجيّين الذين يجدون في الحرب معنى، ويتماهون مع هويّتهم القوميّة، ويشعرون بالتجلّي في ميدان القتال الفعليّ أو في أحياز المواجهة الإعلاميّة؛ الحياة بكثافة عالية، وبارتجاج قويّ. تأسر الحرب قلوب كثيرين من المشاركين فيها. تجذبهم إليها، يلتفّون حولها؛ فتمتزج فيها الكارثة والفرصة، والقدر والرغبة. الانجراف الكبير نحو اليمين، الذي ينسحب الآن على كلّ أجزاء المجتمع في إسرائيل، هو نتيجة للأَسْر في الحرب. قد يكون انتشائيًا وقد يكون كئيبًا، فيه انتماء اجتماعيّ واغتراب سياسيّ، قد يحدث في قلب البلاد أو في رحلة تركها، ويملك قوّة هائلة.
قبل سنوات قليلة، نشر عيلي راونر رواية جريئة أظهر فيها كيف تمتدّ قبضة أسر الحرب إلى مجالات الحياة الاجتماعيّة التي تبدو بعيدة عنها. يكتب في مديح الحرب سيرة شلّة فتيان، طلبة ثانويّين من مركز تل أبيب، ينطلقون في حملات عنف صبيانيّة وبلطجيّة ضد معلّمتهم للأدب. تتشابك هذه الحملات مع إحدى حروب غزّة السابقة، عملية “الجرف الصامد” ٢٠١٤:
لحسن حظّهم، اندلعت الحرب في غزّة في بداية الصيف وأطلقت الصواريخ على مدن الساحل. بدا للمرّة الأولى أنّ عالمهم ارتبط بالمصير المشترك للدولة التي كبروا فيها. لم يعودوا تائهين. لم يعودوا مجهولين أو جامحين بلا ضوابط. قبض الزمن التاريخيّ على حياتهم ورماهم مجدّدًا إلى الشوارع. في إحدى الأمسيات، أطلقت أوّل رشقة صاروخيّة إلى تل أبيب. فتحت السماء فوقهم وانطلقت صافرات الإنذار كأمواج كبيرة تعلو وتنخفض وتُغرق المدينة كلّها بشعور الخراب (راونر ٢٠١٩، ٧٤).
نحن نعيش هذا الالتئام الآن. يواصل هذا العدد من نظريّة ونقد الخطوة التي بدأها العدد السابق، الذي صدر في صيف 2024: كتابة نقد الحرب خلال وقوعها، القيام بذلك في إسرائيل وباللغة العبريّة، على أساس النظريّة النقديّة وفي مجالها، وفي مواجهة الانجراف نحو اليمين الذي يجرف أيضًا المجتمع الأكاديميّ المحليّ. تتناول المجموعة الأولى من نصوص هذا العدد موضوع الوقوع في أسر حرب لا نهاية لها. كمنظومة اجتماعيّة، يحتوي الأَسْر بداخله إمكانية العودة – عودة الإسرائيليّين المأسورين في أنفاق غزّة؛ عودة الفلسطينيّين، الذين أُخذ الآلاف منهم كأوراق مساومة في بداية الحرب، من المعتقلات الإسرائيليّة؛ عودة الجنود الفاعلين في غزّة لحدودهم؛ عودة غزّة لحالة تمكّن الفلسطينيّين من العيش فيها. لكن العودة من الأسر لا تُنهي الأسر ولا تُحرّر منه. إنّها مرحلة في حبكة الأسر، ومن أجل التخلّص من أسر الحرب يجب تجاوز بعض الفرضيات التي تؤسّس لشكل الوجود في إسرائيل/فلسطين.
كُتبت أنهر من الكلمات عن الحرب، وهي تتدفّق مع سيل الصور والتقارير الإخباريّة المتواصلة. يبدو أحيانًا أنّها جزء من أسر الحرب، ترافقه وتجعله ممكنًا. آمل أن تكون مقالات الحرب في نظريّة ونقد نصوصًا تدعو لقراءة من نوع آخر، متروية، مبدئيّة ومع ذلك عاجلة. كُتب الكثير من السنة ونصف السنة الفائتة عن فشل النظريّة، وخيانة النظريّة، والحاجة للتحرّر من النظريّة. تسعى مقالات هذين العددَيْن إلى فتح نافذة لفهم آخر لواقع الحرب، يتطلّب نظريّة، لكنّ النظريّة ليست موضوعه.
***
يبدأ العدد بمقال حچيت كيسار، الذي يعود إلى هجوم حماس في أكتوبر ٢٠٢٣ ويسأل ما الذي أدّى إليه وجعله ممكنًا، وما الذي حوّله إلى غير معقول حتّى لحظة وقوعه. تنظر كيسار إلى غزّة ليس كحيّز سياسيّ للسيطرة والقمع فقط، بل كحيّز للتطوير التكنولوجيّ أيضًا. تُظهر كيف تحوّلت غزّة في العقدين الأخيرين إلى مختبر للتكنولوجيا التجريبيّة – تكنولوجيا عسكريّة إسرائيليّة ثمينة وهائلة القوّة وكذلك تكنولوجيا فلسطينيّة رخيصة من إنتاج ذاتيّ. لذلك، تقترح كيسار جينِيالوجيا الهواء الطلق كحيّز عسكريّ في أوقات الحرب، وكحيّز سيطرة ومراقبة في أوقات السلام، وتُبيّن كيف تحوّل ما عُرف ب”سجن في الهواء الطلق” لموقع ووسيط لقتال إسرائيليّ ونضال فلسطينيّ.
تتعقّب كيسار أثر عنصر تمثيليّ يجسّد الهواء الغزيّ الطلق: الطيّارة الورقيّة، كرمز للنضال من أجل التحرّر وكإمكانيّة لتجاوز الحدود والجدران، والذي تحوّل إلى سلاح حقيقيّ في اختراق الحدود والتسلّل إلى إسرائيل. لم تكن الحركة بين الرمزيّ والفعليّ مفاجئة ولا ذات اتجاه واحد؛ لم يكن ذلك تحوّلًا رهيبًا ذات صباح من لعبة ودمية إلى جهاز تخريب وسلاح. هناك إشارات كثيرة وتمهيدات عديدة على مدى سنين سبقت هجوم حماس، وكيسار تبسطها في مقالها. الجيش الإسرائيليّ، الذي اعتمد على التفوّق التكنولوجيّ، لم يعرها اهتمامًا ونظر إليها كخطأ وتشويش وحادثة. كان ذلك تجاهلًا لأشكال تطوير تجريبيّ لا يعتمد على صناعة فائقة التمويل والقوّة، ولإنتاج معرفة ونشرها. يسلّط المقال الضوء على حيّز تكنولوجيّ-سياسيّ تشكّل في غزّة خلال عقدين، مهّد تطويره وقمعه وإنكاره الأرضية والأجواء لأكتوبر ٢٠٢٣.
من بين الظروف التي مكّنت الحرب، يتوجّه مقال نيتسان روتم إلى ما رافقها طيلة الفترة – الجنود والمدنيّين المحتجزين في غزّة. بلغة غير إيديولوجيّة، تتعاطى معهم كأسرى حرب ولا ترى بإطلاق سراحهم سوى اتفاق لتبادل أسرى من الجانبين، تفحص روتم التغيّر الذي طرأ على معنى الأسْر في العقدين الأخيرين والتعبير المتطرّف عنه في هذه الحرب. تعود روتم إلى بداية علم الاجتماع والتأطير الاصطلاحيّ للأسر ليس كجريمة على حافة الاجتماعيّ، بل كمنظومة اجتماعيّة أساسيّة تعمل كآلية انتقال وتغيير لجماعات. تتبّع خصخصة الأسر، الذي بدأ بعد حرب الغفران مع الطبْيَنة (من الطبّ) والنَفْسَنة (من العلاج النفسيّ) في التعامل مع أسرى الحرب، وتُظهر كيف تنعكس هذه الجوانب في الحرب الحالية. الإفراج المتقطّع عن الأسرى، ومكوثهم في المستشفيات، والبروتوكولات المفصّلة لعلاجهم، العناق الكثير الذي يحظون به والذي يدلّ على عودتهم – كلّها طقوس تفصّل التعامل مع الأسرى ولذلك فهي تُزيل مسؤوليّة الجماعة تجاههم. وكما يوضح إجراء “هنيبعل” (وهو إجراء عسكريّ إسرائيليّ يمنع وقوع الجنود في الأسر حتى لو أدى ذلك إلى قتلهم- المترجم)؛ الأسر هو أمر يجب الامتناع عنه بكلّ ثمن، حتّى لو كان قتل الأسير ذاته، لأنّ الأسر، كما تشرح روتم، لم يعد بمثابة منظومة اجتماعيّة. يرشح عن مقالها أنّ الفشل المتواصل في تبادل الأسرى في الحرب لا يعود فقط إلى قسوة القائد ولا إلى سياسة الحكومة؛ بل هو نتيجة محزنة لانفكاك المجتمع في إسرائيل عن آلية تحمل معنى يرسم سيرورة ويمكّن من إتمامها.
يتناول مقال أوري كاتس أيضًا بموضوع الأسر في أوقات الحرب ويفحص تمثيلًا معيّنا للأسير— الجنديّ الذي لم يُعثَر على جثته ولم يُؤكّد موته ويتواجد على الحافة بين الحياة والموت. يفحص كاتس أربع حالات اُحتجزت فيها جثث جنود إسرائيليّين في لبنان وغزّة، وعلى الرغم من الإشارات الكثيرة التي دلّت على سقوطهم في المعركة إلّا أنّه لم يُعلن عنهم رسميًا كشهداء في الحرب. يقترح كاتس تحليلًا لخطاب هذه الحالات: يفحص التغطية الإعلاميّة، يتتبع الوثائق القضائيّة والبرلمانيّة بشأنهم. ويعرض اللاعبين الاجتماعيّين المختلفين الذين عملوا في الساحة العموميّة وشاركوا في النضال على المكانة الأنطولوجيّة للمخطوف. لكن بدل الحسم في سؤال “حيّ أم ميّت؟” يُبيّن المقال كيف تتشكل في هذه الحالات مكانة جديدة- اللاموت، القائم على أساس عدم وجود جثّة وعلى خطاب ضبابيّ متعدّد المعاني. تلبّي مكانة اللاموت احتياجات عائليّة خاصّة وتُستَغل لأهداف سلطويّة في الوقت ذاته. هكذا، وكاستمرار لسياسة إدارة الحياة والموت التي صاغ مفهومها أشيل مبيمبي، يصف كاتس كيف يرسم ويصون صاحب السيادة مناطق الحافة كلاموت، ويفرضه ليس على الجسد الحاضر في حياته أو موته، بل على الغائب أيضًا، ويضع الموت كحركة من دون نهاية ولا حدود لها. قُدِّم المقال إلى هيئة تحرير المجلة قبل الحرب، واستبق وتنبأ بالدُوار العموميّ العفويّ، ظاهريًا، والذي يُدار بكفاءة فائقة، حول أسرى الحرب الإسرائيليّين غير القليلين في غزّة، والذين كان من المعروف للحكومة أنّهم ميّتين لكن تمّ اعتبارهم أحياءً في الخطاب العموميّ على مدى أشهر طويلة؛ تمّ تحديث المقال خلال الحرب.
يتناول ملفّ الأعمال في هذا العدد أيضًا موضوع الحرب والموت المتعدّد الوجوه، والمنتشر، واللانهائيّ في غزّة. أنتجت عوفري كنعاني مقالة نصيّة-بصريّة تتساءل عن أشكال مشاهَدة صور تمثيلات الرعب من الحرب— صور تتدفق من الإعلام الدوليّ والشبكات الاجتماعيّة إلى الأجهزة الخلويّة الشخصيّة وتخلق “أزمة بكفّ يدي”، كما هو اسم سلسلة الصور التي التقطتها كنعاني للمقالة وترافقها. تفحص كنعاني الاقتراب الوسيط إلى الرعب وأشكال التعاطي الحسيّ-البصريّ معه. لكنّها لا تفعل ذلك كفحص ظاهراتيّ مبسّط كذات تلتقط شيئًا قائمًا مسبقًا، بل تبحث تحوّل هذه الصور إلى أشياء للتأمل بها تتجاوز أشكال معالجتها ونشرها وفق برتوكولات حسابيّة. العلاقة بين النماذج الإحصائيّة، التي توجّه التدفّق الشبكيّ للصور، وبين صور الجثث الكثيرة والمقطّعة والأجساد المشقّقة، تنتج تأملًا مفصلًّا للغاية، بحسب كنعاني؛ تأمل انفعاليّ، أو عارض، بكثرة الصور التي تتحرّك بين الحقيقة والاختلاق، وتظهر على الشاشة وتختفي منها بفعل حركة الإصبع. مقابل ذلك، تصيغ المقالة تعاطيًا آخر، ليس تأمليًا أو لمسيًا فقط، بل تعاطيًا لامباليًا للقرب الجسديّ الجماعيّ، الذي يمكن التدرّب عليه بمساعدة أعمال فنيّة توقف تدفّق الصور المرعبة واستهلاكها الفردانيّ لصالح أجساد تشعر ببعضها البعض حتّى من خلال الوسيط التكنولوجيّ.
***
لا تتناول المجموعة الثانية من نصوص هذا العدد موضوع الحرب. تُثير نانا أريئيل في مقالها الاقتران الشائع في السنوات الأخيرة بين القادة الشعبويّين المعاصرين وبين السفسطائيّين اليونانيّين القدامى—أولئك الذين لم يكن لديهم أيّ اهتمام ببحث الحقيقة، وكانوا نسبويّين غارقين في بلاغة خاوية، وخطباء بارعين يجيدون جرف الجماهير—وتسعى إلى التشكيك فيه. تشكّلت صورة السفسطائيّ هذه من خلال خصومهم اللدودين، الفلاسفة، وترسّخت في كتاباتهم وهي صورة منحازة ومُحرَّفة. تعود أريئيل إلى لحظة ظهور السفسطائيّين، إلى خطاباتهم ووصفهم، وتفهمهم بطريقة مختلفة: كإنسانيّين قدامى تهمهم التربية قبل كلّ شيء، بحثوا العلاقات بين المعرفة والقوّة، ورأوا في الحقيقة أمرًا غير ثابت لا يوجد لأي شخص سلطة عليه، وفضّلوا الجدل على العقيدة الدوغمائيّة. يتتبع المقال تاريخ قراءة السفسطائيّين، ويُبيّن كيف تغيّر التعامل معهم لأنّهم شكّلوا في لحظات حاسمة للفكر نقطة مقارنة، بل ومصدر إلهام لنقد الفلسفة وتجدّدها. في أيامنا هذه، وبينما تنتشر ادعاءات شيوع ما بعد الحقيقة في الخطاب العموميّ، كأنّه حتّى فترة دونالد ترامب سيطّر البحث عن الحقيقة على عالم الإعلام والسياسة، تقترح أريئيل إمكانية التعلّم من السفسطائيّين أمورًا عن الحياة في عالم من دون يقينيّات مسبقة، خاضع لنقاش دائم، إعلاميّ وبلاغيّ، وعن رعاية علاقة مركّبة مع الحقيقة غير مرتبطة بتساميها أو بتعطيلها.
يقترح مقال نيطاع شرام أيضًا شكلًا مختلفًا لقراءة كتابات معروفة. تتوجّه شرام إلى يشعياهو ليبوڤيتش وعوڤاديا يوسف وتسعى لفهم علاقتهما بالصهيونيّة. لكن بدلًا من قراءة كتاباتهما وتفسيرها، تُصغي إلى التسجيلات وتشاهد مقاطع الفيديو الكثيرة التي وثّقت أقوال هذين المفكرَيْن وتفحصها كتعبيرات أدائيّة يجب تحليلها على مختلف مستوياتها. لقد نقل ليبوڤيتش وعوڤاديا جُلّ نظريتهما شفهيًا، في الخطب الدينيّة، والمقابلات، والحوارات، وليس عبر المقالات والأطروحات المكتوبة. بناءً على ذلك، من أجل فهمهما يجب الالتفات إلى فعل الكلام الحيّ واستخراج معانيه من مستوياته المختلفة. هكذا، تحلّل شرام جملة واحدة قالها ليبوڤيتش في مقابلة، وتتوقّف عند إيقاع التعبير عن الكلمات، عن التغيير المفاجئ في نبرة الكلام، وحركات الجسد والابتسامة الماكرة، وتوضح المعنى الساخر لكلامه الذي يختفي عند الاكتفاء بتوثيق المقابلة كنّصّ مكتوب فقط. صِيَغ كلام ليبوڤيتش القصيرة والحادّة والمثيرة للجدل تحمّل على مضمونه طبقة إضافيّة من المعنى. بالمقابل، تُحلّل شرام في المقال الخطب الطويلة لعوڤاديا يوسف وأبعاد الأسطورة والفنتازيا فيها ولغتها الفكاهيّة والتهكميّة، التي تُثير الانفعالات العاطفيّة عند المستمعين لتنقل لهم معانيها. على الرغم من الفروق الكثيرة بينهما، إلّا أنّ ليبوڤيتش ويوسف هما مفكريّن خارجين عن الصهيونيّة الأرثوذكسيّة، وفكرهما السياسيّ غير مُصاغ ومتماسك ولم يوثّق كتابيًا. تُبرز شرام كيف يعرض كل منهما بكلامه الحيّ، الحادّ أو الجيّاش، لاهوتًا سياسيًا مرنًا وغير شموليّ للصهونيّة.
يكتب نوعام چال مقالة عن “خيال ماديّ”، المعرض الثابت للمجموعة الإسرائيليّة في متحف تل أبيب لقيمة الأعمال داليت متتياهو. المعرض الذي افتتح سنة 2022 وتغيّر عدّة مرات منذ ذلك الوقت كخطوة مقصودة لإنقاص وإضافة أعمال. أثار المعرض اهتمامًا كبيرًا في عالم الفنّ المحليّ، بسبب شكل تنظيمه الذي ابتعد بشكل قاطع عن أيّ سرديّة تاريخيّة – قوميّة أو نقديّة – للفنّ في إسرائيل. يفحص چال المعرض نسبة للتغيّرات الواسعة في أشكال عرض المجموعات في المتاحف بالعالم على إثر التحوّل الما بعد استعماريّ، وفي سياق تفكيك السرديّات القوميّة الأحاديّة، ومع تصاعد الخطاب المتحفيّ النقديّ الداعي إلى إحداث تغيير جذري في البنى المؤسسيّة وشكل عرض مقتنيات المتاحف. تطرح المقالة وجهات نظر متعدّدة على المعرض—على الأعمال الفنيّة التي اُختيرت لتكون معروضة به، وعلى الربط بينها، وعلى سؤال المادّة الذي تطرحه وإمكانيات التأمّل السياسيّ فيها، رغم كلّ شيء، في فترة الانقلاب القضائيّ وحرب غزّة.
الباحث الأنثروبولوجيّ إدواردو ڤيڤيروس دي كاسترو معروف لقرّاء نظريّة ونقد من مقال إليران أرزي عن قبيلة الإندوكا والأنثروبولوجيا المعكوسة، والذي نُشر في عدد 54. في هذا العدد، ننشر للمرّة الأولى ترجمة للعبريّة من إحدى كتب إدواردو ڤيڤيروس دي كاسترو—فصلان من عمله البارز ميتافيزيقا الكانيبالية. يطرح هذا الكتاب خطوة ميتا-بحثيّة واسعة تعتمد على إثنوغرافيات مختلفة للأمازوناس الأصلانيّ، وضمن ذلك أبحاث إدواردو ڤيڤيروس دي كاسترو نفسه. إنّها فلسفة بمقاربة ديليز وچواطري التي هي في أساسها بناء للمفاهيم. المفاهيم هنا هي الأفكار الأصلانيّة – التي لم يعد يتم التعاطي معها كفنّ، أو كاحتمالات أو كأفكار يجب تحليلها وتفسيرها بمساعدة مفاهيم الأنثروبولوجيا، بل كمفاهيم قائمة بذاتها، يمكن تجريبها وفهم العالم الأصلانيّ، وعالمنا أيضًا، من خلالها. ترجم أوري لاندسبيرچ فصلان من الكتاب مختلفان بطبيعتهما: الأوّل يتناول ميتافيزيقيا الفريسة ويعرض مقارنة بين طقوس القربان التي تُجرى عند شعوب الأرووطي والتوپينومبا في الأمازون البرازيليّ، لكي يستخلص منها منظومة العلاقة بين الأنا والآخر الكامنة في أساسها. على خلاف المنظومة التي تتأسّس على الصديق، مثل الحوارات الأفلاطونيّة أو مقالات مونتين، أو على مواجهة من خلال الهويّة، مثل الجدليّة الهيچليّة، تكون العلاقات هنا علاقات عداوة تشكّل، من البداية، الأنا عبر العدو الذي يُقتل ويؤكل حتّى يتم دمجه داخلنا فيتكلّم من داخلنا. فالأنا يضمّن وجود العدو بداخله ذاته، وعلاقة العداوة تكون فعليًا على شكل افتراس وافتراس بالمقابل. الفصل الثاني المترجَم هنا هو عن معاني مبنى العداوة عندما يُفهم ليس فقط كميتافيزيقيا أصلانيّة بل كعلاقة بين منظومات تأويل مختلفة: ماذا يحصل عندما تكون العلاقة بين منظومة التأويل الغربيّة والأصلانيّة هي ذاتها علاقة الافتراس المتبادل، العداوة التي تدخل من منظومة مفاهيّمية معيّنة إلى بواطن مَفهمة المنظومة الأخرى؟ هناك أهمية بالغة لهذه الأسئلة، ليس للأنثروبولوجيا بل كتحدٍّ لكل منظومة مؤسّسة على الانفصال: انفصال الحاكم عن المحكوم، انفصال منظومات الإيمان أو الحياة المختلفة، أو الانفصال كعدم القدرة على ترجمة منظومة مفاهيميّة لأخرى. كتب إليران أرزي مقدّمة للترجمة يموضع فيها إدواردو ڤيڤيروس دي كاسترو داخل جينيالوجيا الأنثروبولوجيا – من الملاحظة بالمشاركة، عبر بنيوية ليڤي شتراوس، مرورًا بتجاوز أزمة التمثيل والتحوّل الأنطولوجيّ. يُظهر أرزي كيف تشكّلت صورة العدو من النسيب – زوج الأخت – كغريب يتم إدخاله إلى العائلة ويكوّن مع الأخوة علاقة اختلاف وتذويت للغيريّة التي تؤسّس لبنية العلاقة الاجتماعيّة في الأمازون. يقترح أرزي وجود هذا الأنموذج من الغيريّة الراديكاليّة ويشدّد على محدوديتها الإمبيريقيّة، وبالموازاة يسرد قصصًا تشعل الخيال من تراث الإندوكا.
خلال العمل على هذا العدد انضمت عينات إيرنهايم لمنصب نائبة رئيس التحرير في مجلّة نظريّة ونقد. أتمنى لها النجاح في وظيفتها.
مراجع
ראונר, עילי, .2019 בשבח המלחמה, מודיעין: כנרת זמורה דביר.
Khalidi, Rashid, 2020. The Hundred Years’ War on Palestine, New York: Metropolitan Books